فصل: تفسير الآيات رقم (73- 76)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ‏}‏ وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالعرنات من أرض فلسطين، بغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة، فدعاهم يعقوب عليه السلام وقال‏:‏ يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام، فتجهزوا لتشتروا منه الطعام، فأرسلهم فقدموا مصر، ‏{‏فَدَخَلُوا عَلَيْهِ‏}‏ على يوسف، ‏{‏فَعَرَفَهُمْ‏}‏ يوسف عليه السلام‏.‏

قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ عرفهم بأول ما نظر إليهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه‏.‏

‏{‏وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لم يعرفوه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه‏.‏

وقال عطاء‏:‏ إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك‏.‏

وقيل‏:‏ لأنه كان بِزِيِّ ملوك مصر، عليه ثياب من حرير وفي عنقه طوق من ذهب، فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية، قال لهم‏:‏ أخبروني مَنْ أنتم وما أمركم فإني أنكرت شأنكم‏؟‏ قالوا نحن قوم من أرض الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار‏.‏

فقال‏:‏ لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي‏.‏

قالوا‏:‏ لا والله ما نحن بجواسيس، إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء الله‏.‏

قال‏:‏ وكم أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا معنا إلى البرية، فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا‏.‏

قال‏:‏ فكم أنتم ها هنا‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ عشرة‏.‏

قال‏:‏ وأين الآخر‏؟‏

قالوا‏:‏ عند أبينا، لأنه أخو الذي هلك لأمه، فأبونا يتسلَّى به‏.‏

قال‏:‏ فمن يعلم أن الذي تقولون حق‏؟‏

قالوا‏:‏ أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا أحد من أهلها‏.‏

فقال يوسف‏:‏ فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، وأنا أرضى بذلك‏.‏

قالوا‏:‏ فإن أبانا يحزن على فراقه وسنراود عنه أباه‏.‏

قال‏:‏ فَدَعُوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم، فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف، فخلّفوه عنده‏.‏ فذلك قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ حمَّل لكل واحد بعيرا بعدتهم، ‏{‏قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ‏}‏ يعني ينيامين، ‏{‏أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ‏}‏ أي‏:‏ أُتمّه ولا أبخس الناس شيئا، فأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم، وأكرم منزلتكم وأحسن إليكم، ‏{‏وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي خير المضيفين‏.‏ وكان قد أحسن ضيافتهم‏.‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي‏}‏ أي‏:‏ ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ‏{‏وَلا تَقْرَبُونِ‏}‏ أي‏:‏ لا تقربوا داري وبلادي بعد ذلك وهو جزم على النهي‏.‏

‏{‏قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ‏}‏ أي‏:‏ نطلبه ونسأله أن يرسله معنا، ‏{‏وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ‏}‏ ما أمرتنا به‏.‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏{‏لِفِتْيَانِهِ‏}‏ بالألف والنون، وقرأ الباقون‏:‏ ‏"‏ لفتيته ‏"‏ بالتاء من غير ألف يريد لغلمانه، وهما لغتان مثل الصِّبْيان والصِّبْيَة، ‏{‏اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ‏}‏ ثمن طعامهم وكانت دراهم‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ كانت النعال والأدم‏.‏

وقيل‏:‏ كانت ثمانية جرب من سويق المقل‏.‏ والأول أصح‏.‏

‏{‏فِي رِحَالِهِمْ‏}‏ أوعيتهم، وهي جمع رحل، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا‏}‏ انصرفوا، ‏{‏إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

واختلفوا في السبب الذي فعله يوسف من أجله، قيل‏:‏ أراد أن يريهم كرمه في ردِّ البضاعة وتقديم الضمان في البر والإحسان، ليكون أدعى لهم إلى العود، لعلّهم يعرفونها، أي‏:‏ كرامتهم علينا‏.‏

وقيل‏:‏ رأى لؤما أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرُّمًا‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ تخوّف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى‏.‏

وقيل‏:‏فعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا‏}‏ إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب‏:‏ إذا أتيتم ملك مصر فأقرئوه مني السلام، وقولوا له‏:‏ إنّ أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال‏:‏ أين شمعون‏؟‏ قالوا‏:‏ ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة، فقال لهم‏:‏ ولِمَ أخبرتموه‏؟‏ قالوا‏:‏ إنه أخذنا وقال أنتم جواسيس- حيث كلمناه بلسان العبرانية- وقصُّوا عليه القصة، وقالوا يا أبانا‏:‏

‏{‏مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ‏}‏ قال الحسن‏:‏ معناه يمنع منا الكيل إن لم تحمل أخانا معنا‏.‏

وقيل‏:‏ معناه أعطى باسم كل واحد حملا ومنع منا الكيل لبنيامين، والمراد بالكيل‏:‏ الطعام، لأنه يكال‏.‏

‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا‏}‏ بنيامين، ‏{‏نَكْتَل‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏يكتل‏}‏ بالياء، يعني‏:‏ يكْتَلْ لنفسه كما نحن نكتال، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏{‏نكتل‏}‏ بالنون، يعني‏:‏ نكتل نحن وهو الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ نكتل له، ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ‏}‏ يوسف ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم‏؟‏ ‏{‏فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏{‏حَافِظًا‏}‏ بالألف على التفسير، كما يقال‏:‏ هو خيرٌ رجلا وقرأ الآخرون‏:‏ ‏{‏حفظا‏}‏ بغير ألف على المصدر، يعني‏:‏ خيركم حفظا، يقول‏:‏ حفظه خير من حفظكم‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ‏}‏ الذي حملوه من مصر، ‏{‏وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ‏}‏ ثمن الطعام، ‏{‏رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي‏}‏ أي‏:‏ ماذا نبغي وأي شيء نطلب‏؟‏ وذلك أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك إليهم، وحثّوه على إرسال بنيامين معهم، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة، ‏{‏هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ أيُّ شيء نطلب بالكلام، فهذا هو العيان من الإحسان والإكرام، أَوْفَى لنا الكيل ورَدَّ علينا الثمن‏.‏ أرادوا تطييب نفس أبيهم، ‏{‏وَنَمِيرُ أَهْلَنَا‏}‏ أي‏:‏ نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم‏.‏ يقال‏:‏ مارَ أهله يَمِيْر مَيْرا‏:‏ إذا حمل إليهم الطعام من بلد إلى بلد آخر‏.‏ ومثله‏:‏ امتار يمتار امتيارا‏.‏ ‏{‏وَنَحْفَظُ أَخَانَا‏}‏ بنيامين، أي‏:‏ مما تخاف عليه‏.‏ ‏{‏وَنَزْدَادُ‏}‏ على أحمالنا، ‏{‏كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ حمل بعير يكال لنا من أجله، لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير، ‏{‏ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه نزداد كيل بعير ذلك كيل يسير لا مؤنة فيه ولا مشقة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ البعير ها هنا هو الحمار‏.‏ كيل بعير، أي‏:‏ حمل حمار، وهي لغة، يقال للحمار‏:‏ بعير‏.‏ وهم كانوا أصحاب حُمُرٍ، والأول أصح أنه البعير المعروف‏.‏

‏{‏قال‏}‏ لهم يعقوب، ‏{‏لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ‏}‏ تعطوني ‏{‏مَوْثِقًا‏}‏ ميثاقا وعهدا، ‏{‏مِنَ اللَّهِ‏}‏ والعهد الموثَّق‏:‏ المؤكّد بالقسم‏.‏ وقيل‏:‏ هو المؤكد بإشهاد الله على نفسه ‏{‏لَتَأْتُنَّنِي بِهِ‏}‏ وأدخل اللام فيه لأن معنى الكلام اليمين، ‏{‏إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ قال مجاهد إلا أن تهلكوا جميعا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك‏.‏

وفي القصة‏:‏ أن الإخوة ضاق الأمر عليهم وجهدوا أشد الجهد، فلم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ أعطوه عهودهم، ‏{‏قَال‏}‏ يعني‏:‏ يعقوب ‏{‏اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏ شاهد‏.‏ وقيل‏:‏ حافظ‏.‏ قال كعب‏:‏ لما قال يعقوب فالله خير حافظا، قال الله عز وجل‏:‏ وعزتي لأرُدَّنَّ عليك كليهما بعدما توكَّلْت عليَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَال‏}‏ لهم يعقوب لما أرادوا الخروج من عنده، ‏{‏يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ‏}‏ وذلك أنه خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامةٍ، وكانوا ولد رجل واحد، فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حق، وجاء في الأثر‏:‏ ‏"‏إنّ العَين تُدخلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القدرَ‏"‏‏.‏

وعن ابراهيم النخعي‏:‏ أنه قال ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق‏.‏ والأول أصح‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ معناه‏:‏ إن كان الله قضى فيكم قضاء فيصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين، فإن المقدور كائن والحذر لا ينفع من القدر، ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ‏}‏ ما الحكم، ‏{‏إِلا لِلَّهِ‏}‏ هذا تفويض يعقوب أموره إلى الله، ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ اعتمدت، ‏{‏وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأبواب المتفرقة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت المدينة مدينة الفرماء ولها أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها، ‏{‏مَا كَانَ يُغْنِي‏}‏ يدفع ‏{‏عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ صَدَق اللهُ تعالى يعقوبَ فيما قال، ‏{‏إِلا حَاجَةً‏}‏ مراداً، ‏{‏فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا‏}‏ أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وجرى الأمر عليه، ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ يعقوب عليه السلام، ‏{‏لَذُو عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، ‏{‏لِمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ لتعليمنا إياه‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لعامل بما علم‏.‏

قال سفيان‏:‏ من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما‏.‏ وقيل‏:‏ وإنه لذو حفظ لما علَّمناه‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ما يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ‏}‏ قالوا‏:‏ هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به، فقال‏:‏ أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا، فبكى وقال‏:‏ لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف‏:‏ لقد بقي أخوكم هذا وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، فجعل يُواكله فلما كان الليل أمر لهم بمثل ذلك وقال‏:‏ لينم كل أخوين منكم على مثال، فبقى بنيامين وحده، فقال يوسف‏:‏ هذا ينام معي على فراشي، فنام معه، فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح، وجعل روبين يقول‏:‏ ما رأينا مثل هذا، فلما أصبح، قال لهم‏:‏ إني أرى هذا الرجل ليس معه ثان فسأضمه إليَّ فيكون منزله معي، ثم أنزلهم منزلا وأجرى عليهم الطعام، وأنزل أخاه لأمه معه، فذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ أي‏:‏ ضمَّ إليه أخاه فلما خلا به قال‏:‏ ما اسمك‏؟‏ قال‏:‏ بنيامين، قال‏:‏ وما بنيامين‏؟‏ قال‏:‏ ابن المثكل، وذلك أنه لما ولد هلكت أمه‏.‏ قال‏:‏ وما اسم أمك‏؟‏ قال‏:‏ راحيل بنت لاوى، فقال‏:‏ فهل لك من ولد‏؟‏ قال‏:‏ نعم عشرة بنين، قال‏:‏ فهل لك من أخ لأمك، قال‏:‏ كان لي أخ فهلك، قال يوسف أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، فقال بنيامين‏:‏ ومَنْ يجد أخاً مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عند ذلك وقام إليه وعانقه، وقال له‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ‏}‏ أي‏:‏ لا تحزن، ‏{‏بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، ولا تعَلّمْهم شيئا مما أعلمتك، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لهم بعيرا بعيرا، ولبنيامين بعيرا باسمه، ثم أمر بسقاية الملك فجعلت في رحل بنيامين‏.‏

قال السدي‏:‏ جعلت السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر‏.‏

وقال كعب‏:‏ لما قال له يوسف إني أنا أخوك، قال بنيامين‏:‏ أنا لا أفارقك، فقال له يوسف‏:‏ قد علمت اغتمام والدي بي وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمد، قال‏:‏ لا أبالي، فافعل، ما بدا لك، فإني لا أفارقكَ، قال‏:‏ فإني أدسُّ صاعي في رحلك ثم أنادي عليكم بالسرقة، ليهيأ لي ردّك بعد تسريحك‏.‏ قال‏:‏ فافعل فذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ‏}‏ وهي المشربة التي كان الملك يشرب منها‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانت من زبرجد‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ كانت من فضة‏.‏ وقيل‏:‏ من ذهب، وقال عكرمة‏:‏ كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب منها‏.‏

والسقاية والصواع واحد، وجعلت في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا‏.‏

وقيل‏:‏ حتى خرجوا من العمارة، ثم بعث خلفهم مَنْ استوقفهم وحبسهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ‏}‏ نادى منادٍ، ‏{‏أَيَّتُهَا الْعِيرُ‏}‏ وهي القافلة التي فيها الأحمال‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانت العير حميرا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كانوا أصحاب إبل‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ قفوا‏.‏ قيل‏:‏ قالوه من غير أمر يوسف‏.‏ وقيل‏:‏ قالوه بأمره، وكان هفوة منه‏.‏ وقيل‏:‏ قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، فلما انتهى إليهم الرسول، قال لهم‏:‏ ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلتكم، ونوفِّكم كيلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، وما ذاك‏؟‏ قالوا‏:‏ سقاية الملك فقدناها، ولا نَتَّهِمُ عليها غيركم‏.‏ فذلك قوله عز وجل‏:‏

‏{‏قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ‏}‏ عطفوا على المؤذن وأصحابه، ‏{‏مَاذَا تَفْقِدُونَ‏}‏ ما الذي ضلّ عنكم‏.‏ والفقدان‏:‏ ضدّ الوجد‏.‏

‏{‏قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير‏}‏ من الطعام، ‏{‏وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ كفيل، يقوله المؤذن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف، ‏{‏تَاللَّه‏}‏ أي‏:‏ والله، وخصت هذه الكلمة بأن أبدلت الواو فيها بالتاء في اليمين دون سائر أسماء الله تعالى‏.‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ‏}‏ لنسرق في أرض مصر‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قالوا لقد علمتم‏؟‏ ومن أين علموا ذلك‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نَرْزَأ أحدا شيئا فاسألوا عنا مَنْ مررنا به‏:‏ هل ضررنا أحدا‏؟‏

وقيل‏:‏ لأنهم ردوا البضاعة التي جعلت في رحالهم، قالوا‏:‏ فلو كنا سارقين ما رددناها‏.‏

وقيل‏:‏ قالوا ذلك لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كيلا تتناول شيئا من حروث الناس‏.‏

‏{‏وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني المنادي وأصحابه ‏{‏فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ أي‏:‏ جزاء السارق، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ‏}‏ في قولكم ‏"‏وما كنا سارقين‏"‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف، ‏{‏جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ أي‏:‏ فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏ الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير‏.‏

فقال الرسول عند ذلك‏:‏ لا بدّ من تفتيش أمتعتكم‏.‏

فأخذ في تفتيشها‏.‏ ورُوي أنه ردّهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه‏.‏

‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ‏}‏ لإزالة التهمة، ‏{‏قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ‏}‏ فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين، قال‏:‏ ما أظن هذا أخذه، فقال إخوته‏:‏ والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ‏}‏ وإنما أَنَّث الكناية في قوله ‏"‏ثم استخرجها‏"‏ والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله‏:‏ ‏"‏ولمن جاء به حمل بعير‏"‏؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية‏.‏

وقيل‏:‏ الصواع يذكر ويؤنث‏.‏ فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين وقالوا‏:‏ ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل‏؟‏ ما يزال لنا منكم البلاء، متى أخذت هذا الصواع‏؟‏ فقال بنيامين‏:‏ بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، فأخذوا بنيامين رقيقا‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ والكيد ها هنا جزاء الكيد، يعني‏:‏ كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم‏.‏ وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف‏:‏ ‏"‏فيكيدوا لك كيدا‏"‏، فكدنا ليوسف في أمرهم‏.‏

والكيد من الخلق‏:‏ الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق‏.‏ وقيل‏:‏ كدنا‏:‏ ألهمنا‏.‏ وقيل‏:‏ دبَّرنا‏.‏ وقيل‏:‏ أردنا‏.‏ ومعناه‏:‏ صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه، وحال بينه وبين إخوته‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ‏}‏ فيضمه إلى نفسه، ‏{‏فِي دِينِ الْمَلِكِ‏}‏ أي‏:‏ في حكمه‏.‏ قاله قتادة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في سلطانه‏.‏ ‏{‏إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى‏.‏

‏{‏نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ‏}‏ بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏ يرفع ‏"‏ و ‏"‏ يشاء ‏"‏ بالياء فيهما وإضافة درجات إلى ‏{‏مَنْ‏}‏ في هذه السورة‏.‏ والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ يرفع الله درجات من يشاء‏.‏ وقرأ الباقون بالنون فيهما إلا أن الكوفيين قرؤوا‏:‏ ‏"‏ درجات ‏"‏ بالتنوين، ومَنْ سواهم بالإضافة، أي‏:‏ نرفع به نحن، والرافع أيضا هو الله تعالى‏.‏

‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فوق كل عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى‏.‏ فالله تعالى فوق كل عالم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يريدون أخاً له من أمه، يعني‏:‏ يوسف‏.‏ واختلفوا في السرقة التي وصفوا بها يوسف عليه السلام، فقال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ كان لجده، أبي أمه، صنم يعبده، فأخذه سرّاً، أو كسره وألقاه في الطريق لئلا يعبد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ إن يوسف جاءه سائل يوما، فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا‏.‏ وقال وهب‏:‏ كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق‏:‏ أن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق، بعد موت أمه راحيل، فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا، فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه، فأتاها وقال‏:‏ يا أختاه سلِّمي إليَّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة‏.‏ قالت‏:‏ لا والله، فقال‏:‏ والله ما أنا بتاركه، فقالت‏:‏ دعه عندي أياما أنظر إليه لعلّ ذلك يسليني عنه، ففعل ذلك، فعمدت إلى منطقة لإسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر، فكانت عندها لأنها كانت أكبر ولد إسحاق، فحزمت المنطقة على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت‏:‏ لقد فقدت منطقة إسحاق اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف، فقالت‏:‏ والله إنه لَسَلَمٌ لي، فقال يعقوب‏:‏ إن كان فعل ذلك فهو سَلَمٌ لك، فأمسكته حتى ماتت، فذلك الذي قال إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَسَرَّهَا‏}‏ أضمرها ‏{‏يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ‏}‏ وإنما أتت الكناية لأنه عني بها الكلمة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا‏}‏ ذكرها سرا في نفسه ولم يصرح بها، يريد أنتم شر مكانا أي‏:‏ منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف، لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقية، وخيانتكم حقيقة، ‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ تقولون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا‏}‏ وفي القصة أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها، وكان مع هذا إذا مسَّه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه‏.‏

وقيل‏:‏ كان هذا صفة شمعون من ولد يعقوب‏.‏

وروي أنه قال لإخوته‏:‏ كم عدد الأسواق بمصر‏؟‏ فقالوا عشرة، فقال‏:‏ اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك، أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل‏:‏ لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير‏:‏ قم إلى جنب روبيل فمسه‏.‏ وروي‏:‏ خذ بيده فأتني به، فذهب الغلام فمسّه فسكن غضبه‏.‏ فقال روبيل‏:‏ إن ها هنا لَبَزْرًا من بَزْر يعقوب، فقال يوسف‏:‏ مَنْ يعقوب‏؟‏

ورُوي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه، فوقع على الأرض وقال‏:‏ أنتم معشر العبرانيين تظنون أنْ لا أحدَ أشدّ منكم‏؟‏

فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا، وقالوا‏:‏ يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً يحبه، ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ‏}‏ بدلا منه، ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ في أفعالك‏.‏ وقيل‏:‏ من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة‏.‏ وقيل‏:‏ يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين‏.‏

‏{‏قال‏}‏ يوسف، ‏{‏مَعَاذَ اللَّهِ‏}‏ أعوذ بالله، ‏{‏أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ‏}‏ ولم يقل إلا من سرق تحرزا من الكذب، ‏{‏إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ‏}‏ إن أخذنا بريئا بمجرم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ أيسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ اسْتَيْئَسُوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم‏.‏ ‏{‏خَلَصُوا نَجِيًّا‏}‏ أي‏:‏ خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم‏.‏

والنجيُّ يصلح للجماعة كما قال ها هنا، ويصلح للواحد كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏(‏مريم- 52‏)‏ وإنما جاز للواحد والجمع لأنه مصدر جعل نعتا كالعدل والزور، ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذْ همْ نجوى‏}‏ ‏(‏الإسراء- 47‏)‏، أي‏:‏ متناجون‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ‏}‏ ‏(‏المجادلة- 7‏)‏، وقال في المصدر ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ‏}‏ ‏(‏المجادلة- 10‏)‏‏.‏

‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ في العقل والعلم لا في السن‏.‏ قال ابن عباس والكلبي‏:‏ هو يهوذا وهو أعقلهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو شمعون، وكانت له الرئاسة على إخوته‏.‏ وقال قتادة والسدي والضحاك‏:‏ هو روبيل، وكان أكبرهم في السن، وهو الذي نهى الإخوة عن قتل يوسف‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا‏}‏ عهدا‏.‏ ‏{‏مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ‏}‏ قصّرتم ‏{‏فِي يُوسُفَ‏}‏ واختلفوا في محل ‏"‏ ما ‏"‏؛ قيل‏:‏ هو نصب بإيقاع العلم عليه، يعني‏:‏ ألم تعلموا من قبل تفريطكم في يوسف‏.‏

وقيل‏:‏ وهو في محل الرفع على الابتداء وتم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ اللَّهِ‏}‏ ثم قال ‏{‏وَمِنْ قَبْلُ‏}‏ هذا تفريطكم في يوسف وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ صلة‏.‏ أي‏:‏ ومن قبل هذا فرطتم في يوسف‏.‏

‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ‏}‏ التي أنا بها وهي أرض مصر ‏{‏حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي‏}‏ بالخروج منها ويدعوني، ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي‏}‏ بردِّ أخي إليّ، أو بخروجي وترك أخي‏.‏ وقيل‏:‏ أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي‏.‏

‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ أعدل مَنْ فَصَل بين الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ‏}‏ يقول الأخ المحتبس بمصر لإخوته ارجعوا إلى أبيكم، ‏{‏فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ‏}‏ بنيامين، ‏{‏سَرَقَ‏}‏ قرأ ابن عباس والضحاك ‏"‏سُرِّق‏"‏ بضم السين وكسر الراء وتشديدها، يعني‏:‏ نُسب إلى السرقة، كما يقال‏:‏ خوَّنته أي نسبته إلى الخيانة‏.‏

‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ يعني‏:‏ ما قلنا هذا إلا بما علمنا فإنّا رأينا إخراج الصاع من متاعه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وما شهدنا، أي‏:‏ ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمنا، وليست هذه شهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم‏.‏

وقيل‏:‏ قال لهم يعقوب عليه السلام‏:‏ ما يدري هذا الرجل أن السارق يُؤخذ بسرقته إلا بقولكم، فقالوا‏:‏ ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقُّ إلا بما علمنا، وكان الحكم ذلك عند الأنبياء؛ يعقوب وبنيه‏.‏

‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ ما كنا نعلم أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا إليه، وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ وما كنا للغيب حافظين فلعلها دُسَّتْ بالليل في رحله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ أهل القرية وهي مصر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر‏.‏ ‏{‏وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ القافلة التي كنا فيها‏.‏ وكان صَحِبَهم قومٌ من كنعان من جيران يعقوب‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ عرف الأخ المحتبس بمصر أن إخوته أهل تهمة عند أبيهم لِما كانوا صنعوا في أمر يوسف، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه عليه، وفيه معنى العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة‏؟‏‏.‏ قيل‏:‏ قد أكثر الناس فيه، والصحيح أنه عمل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى، أمره بذلك، ليزيد في بلاء يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدرجة بآبائه الماضين‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنه لم يأمن أن يدبروا في أمره تدبيرا فيكتموه عن أبيه‏.‏ والأول أصح‏.‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ‏}‏ زيَّنت، ‏{‏أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا‏}‏ وفيه اختصار معناه‏:‏ فرجعوا إلى أبيهم وذكروا لأبيهم ما قال كبيرهم، فقال يعقوب‏:‏ ‏{‏بل سولت لكم أنفسكم أمرا‏}‏، أي‏:‏ حمل أخيكم إلى مصر لطلب نفع عاجل‏.‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا‏}‏ يعني‏:‏ يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ‏}‏ بحزني ووجدي على فقدهم، ‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ في تدبير خلقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ‏}‏ وذلك أن يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تتامَّ حزنه وبلغ جهده، وتهيج حزنه على يوسف فأعرض عنهم، ‏{‏وَقَالَ يَا أَسَفَى‏}‏ يا حزناه، ‏{‏عَلَى يُوسُفَ‏}‏ والأسفُ أشدُّ الحزن، ‏{‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ‏}‏ عمي بصره‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لم يبصر بهما ست سنين، ‏{‏فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عاما، لا تجفُّ عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ أولاد يعقوب، ‏{‏تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف‏}‏ أي‏:‏ لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبه، و ‏"‏ لا ‏"‏ محذوفة من قوله ‏{‏تَفْتَأ‏}‏ يقال‏:‏ ما فتئ يفعل كذا أي‏:‏ ما زال، كقول امرئ القيس‏:‏

فقلتُ يمينُ الله أَبْرَحُ قائمًا *** ولَوْ قَطَّعُوا رأسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي

أي‏:‏ لا أبرح‏.‏ ‏{‏حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ دفنا وقال مجاهد‏:‏ الحرض ما دون الموت، يعني‏:‏ قريبا من الموت‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ فاسدا لا عقل لك‏.‏

والحرض‏:‏ الذي فسد جسمه وعقله‏.‏ وقيل‏:‏ ذائبا من الهم‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ حتى تكون دَنِفَ الجسم مخبول العقل‏.‏

وأصل الحرض‏:‏ الفساد في الجسم والعقل من الحزن والهرم، أو العشق، يقال‏:‏ رجل حَرَض وامرأة حَرَض، ورجلان وامرأتان حَرَض، ورجال ونساء كذلك، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر وضع موضع الاسم‏.‏ ‏{‏أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ‏}‏ أي‏:‏ من الميتين‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ يعقوب عليه السلام عند ذلك لما رأى غِلظتهم ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ والبثُّ‏:‏ أشَدُّ الحزن، سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يثبته أي يظهره، قال الحسن‏:‏ بَثِّي أي‏:‏ حاجتي‏.‏

ويُروى أنه دخل على يعقوب جارٌ له وقال‏:‏ يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك‏؟‏ قال‏:‏ هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه‏:‏ يا يعقوب يعني بقوله ‏"‏فأحرضني‏"‏‏:‏ أذابني فتركني محرضا‏.‏

أتشكوني إلى خلقي‏؟‏ فقال‏:‏ يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرْها لي، فقال‏:‏ قد غفرتها لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال‏:‏ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏.‏

وروي أنه قيل له‏:‏ يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وقوَّس ظهرك‏؟‏ قال‏:‏ أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوَّس ظهري حزني على أخيه‏.‏ فأوحى الله إليه‏:‏ أتشكوني‏؟‏ فوعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني‏.‏

فعند ذلك قالإنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فأوحى الله إليه‏:‏ وعزتي وجلالي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك، وإنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيئا، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين‏.‏

فصنع طعاما ثم قال‏:‏ من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب‏.‏

وروي أنه كان بعد ذلك إذا تغدى أمر من ينادي‏:‏ مَنْ أراد الغداء فليأت يعقوب، وإذا أفطر أمر مَنْ ينادي‏:‏ مَنْ أراد أن يفطر فليأت يعقوب، فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين‏.‏ وعن وهب بن منبه قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى يعقوب‏:‏ أتدري لِمَ عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة‏؟‏ قال‏:‏ لا يا إلهي، قال‏:‏ لأنك قد شويت عناقا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه‏.‏

وروي‏:‏ أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور‏.‏ وقال وهب والسدي وغيرهما‏:‏ أتى جبريل يوسف عليه السلام في السجن فقال‏:‏ هل تعرفني أيها الصديق‏؟‏

قال‏:‏ أرى صورة طاهرة وريحا طيبة‏.‏

قال‏:‏ إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين‏.‏

قال‏:‏ فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين ?

قال‏:‏ ألم تعلم يا يوسف أن الله تعالى يطهر البيوت بطهر النبيين، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين، وأن الله تعالى قد طهر بك السجن وما حوله، يا طُهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين‏.‏

قال‏:‏ وكيف لي باسم الصديقين وتعدّني من المخلصين الطاهرين، وقد أدخلت مدخل المذنبين وسميت باسم الفاسقين‏؟‏

قال جبريل‏:‏ لأنه لم يفتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك لذلك سماك الله في الصديقين، وعدّك من المخلصين، وألحقك بآبائك الصالحين‏.‏

قال يوسف‏:‏ هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وهبه الله الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم‏.‏

قال‏:‏ فكم قدّر حزنه‏؟‏

قال‏:‏ حزن سبعين ثكلى‏.‏

قال‏:‏ فما زاد له من الأجر يا جبريل‏؟‏

قال‏:‏ أجر مائة شهيد‏.‏

قال‏:‏ أفتراني لاقيه‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فطابت نفس يوسف، وقال‏:‏ ما أبالي بما لقيت إن رأيته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون‏.‏

روي أن ملك الموت زار يعقوب فقال له‏:‏ أيها الملك الطيب ريحه، الحسن صورته، هل قبضت روح ولدي في الأرواح‏؟‏ قال‏:‏ لا فسكن يعقوب وطمع في رؤيته، وقال‏:‏ وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وإني وأنتم سنسجد له‏.‏

وقال السدي‏:‏ لما أخبره ولده بسيرة الملك أحسَّت نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف، فقال‏:‏ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه‏.‏

وروي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة‏:‏ أن يعقوب عليه السلام كتب كتابا إلى يوسف عليه السلام حين حبس بنيامين‏:‏ من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد‏:‏ فإنا أهل بيت وُكِّلَ بِنَا البلاء؛ أمَّا جدي إبراهيم فشدَّتْ يداه ورجلاه وألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدَّت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم، فقالوا‏:‏ قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من البكاء عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه لأمه، وكنت أتسلَّى به، وإنك حبسته وزعمت أنه سرق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره، فأظهر نفسه على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا‏}‏ تخبروا واطلبوا الخبر، ‏{‏مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ‏}‏ والتحسّس بالحاء والجيم لا يبعد أحدهما من الآخر، إلا أن التحسس بالحاء في الخير وبالجيم في الشر، والتحسس هو طلب الشيء بالحاسَّة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه التمسوا ‏{‏وَلا تَيْئَسُوا‏}‏ ولا تقنطوا ‏{‏مِنْ رَوْحِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ من رحمة الله، وقيل‏:‏ من فرج الله‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ‏}‏ وفيه إضمار تقديره‏:‏ فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف عليه السلام‏.‏ ‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ‏}‏ أي‏:‏ الشدة والجوع، ‏{‏وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ‏}‏ أي‏:‏ قليلة رديئة كاسدة، لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها، وأصل الإزجاء‏:‏ السوق والدفع‏.‏ وقيل‏:‏ للبضاعة مزجاة لأنها غير نافقة، وإنما تجوز على دَفْعٍ من آخذها‏.‏

واختلفوا فيها، فقال ابن عباس‏:‏ كانت دراهم رديئة زيوفا‏.‏

وقيل‏:‏ كانت خَلَق الغرائر والحبال‏.‏

وقيل‏:‏ كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط‏.‏

وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ كانت الحبة الخضراء‏.‏

وقيل‏:‏ كانت من سويق المُقل‏.‏

وقيل‏:‏ كانت الأدم والنعال‏.‏

‏{‏فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ‏}‏ أي‏:‏ أعطنا ما كنت تعطينا قَبْلُ بالثمن الجيد الوافي‏.‏

‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ تفضل علينا بما بين الثمنين الجيد والرديء ولا تنقصنا‏.‏ هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

وقال ابن جريج والضحاك‏:‏ وتصدق علينا برد أخينا إلينا‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي‏}‏ يثيب، ‏{‏الْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ لم يقولوا إن الله يجزيك؛ لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن‏.‏

وسئل سفيان بن عيينة‏:‏ هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبينا عليه الصلاة والسلام‏؟‏ فقال سفيان‏:‏ ألم تسمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏، يريد أن الصدقة كانت حلالا لهم‏.‏

وروي أن الحسن سمع رجلا يقول‏:‏ اللهم تصدق علي، فقال‏:‏ إن الله لا يتصدق وإنما يتصدق من يبغي الثواب، قل‏:‏ اللهم أعطني أو تفضل عليّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏ قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ‏}‏ اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، قال ابن إسحاق‏:‏ ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة فارفضَّ دمعه، فباح بالذي كان يكتم منهم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ إنما قال ذلك حين حكى لإخوته أن مالك بن ذعر قال‏:‏ إني وجدت غلاما في بئر، من حاله كيت وكيت، فابتعته بكذا درهما فقالوا‏:‏ أيها الملك، نحن بعنا ذلك الغلام، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يهوذا وهو يقول‏:‏ كان يعقوب يحزن ويبكي لفقد واحد منا حتى كفّ بصره، فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلهم‏؟‏ ثم قالوا له‏:‏ إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول‏.‏

وقيل‏:‏ قاله حين قرأ كتاب أبيه إليه فلم يتمالك البكاء فقال‏:‏ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرقتُم بينهما، وصنعتُم ما صنعتُم إذ أنتم جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف‏؟‏ وقيل‏:‏ مذنبون وعاصون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إذ أنتم شباب ومعكم جهل الشباب‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قال ما فعلتم بيوسف وأخيه، وما كان منهم إلى أخيه، وهم لم يسعوا في حبسه‏؟‏ قيل‏:‏ قد قالوا له في الصاع ما يزال لنا بلاء، وقيل‏:‏ ما رأينا منكم يا بني راحيل خيرا‏.‏ وقيل‏:‏ لما كانا من أم واحدة كانوا يؤذونه من بعد فَقْدِ يوسف‏.‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو جعفر‏:‏ ‏"‏ إنَّك ‏"‏ على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ كان يوسف يتكلم من وراء ستر فلما قال يوسف‏:‏ هل علمتم ما فعلتم، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب، فعرفوه‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ لما قال هذا القول تبسم يوسف فرأوا ثناياه كاللؤلؤ المنظوم فشبهوه بيوسف، فقالوا استفهاما أئنك لأنت يوسف‏؟‏‏.‏

وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان له في قرنه علامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها شبه الشامة، فعرفوه فقالوا‏:‏ أئنك لأنت يوسف‏.‏

وقيل‏:‏ قالوه على التوهم حتى، ‏{‏قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي‏}‏، بنيامين، ‏{‏قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا‏}‏ أنعم علينا بأن جمع بيننا‏.‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ‏}‏ بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، ‏{‏وَيَصْبِرْ‏}‏ عما حرم الله عز وجل عليه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يتقي الزنى ويصبر عن العزوبة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يتقي المعصية ويصبر على السجن، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ معتذرين، ‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ اختارك الله وفضَّلك علينا، ‏{‏وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ‏}‏ أي‏:‏ وما كنا في صنيعنا بك إلا مخطئين مذنبين‏.‏ يقال‏:‏ خَطِئَ خِطْئاً إذا تعمد، وأخطأ إذا كان غير متعمد‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ يوسف وكان حليما، ‏{‏لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏}‏ لا تعيير عليكم اليوم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، ‏{‏يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏‏.‏

فلما عّرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال‏:‏ ما فعل أبي بعدي‏؟‏ قالوا‏:‏ ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه، وقال‏:‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ يعد مبصرا‏.‏ وقيل‏:‏ يأتيني بصيرا لأنه كان قد دعاه‏.‏

قال الحسن‏:‏ لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله عز وجل‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كان ذلك القميص من نسج الجنة‏.‏

وعن مجاهد قال‏:‏ أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، فألبسه إيّاه فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام، فلما مات ورثه إسحاق، فلما مات ورثه يعقوب، فلما شبَّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة، وسدَّ رأسها، وعلَّقها في عنقه، لما كان يخاف عليه من العين، فكان لا يفارقه‏.‏ فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبريل عليه السلام وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص منه وألبسه إيّاه، ففي هذا الوقت جاء جبريل عليه السلام إلى يوسف عليه السلام وقال‏:‏ أرسل ذلك القميص، فإن فيه ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته وقال‏:‏ ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، ‏{‏وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ‏}‏ أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان ‏{‏قَالَ أَبُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قال يعقوب لولد ولده، ‏{‏إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏‏.‏

روي أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير‏.‏

قال مجاهد‏:‏ أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام‏.‏ وحكي عن ابن عباس‏:‏ من مسيرة ثمان ليال‏.‏

وقال الحسن‏:‏ كان بينهما ثمانون فرسخا‏.‏

وقيل‏:‏ هبت ريح فصفقت القميص، فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة، إلا ما كان من ذلك القميص، فلذلك قال‏:‏ إني لأجد ريح يوسف‏.‏

‏{‏لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ‏}‏ تُسَفِّهوني، وعن ابن عباس‏:‏ تُجَهِّلوني‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تهرِّمون فتقولون‏:‏ شيخ كبير قد خرف وذهب عقله‏.‏ وقيل‏:‏ تضعِّفوني‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تضلّلوني‏.‏ وأصل الفَنَدِ‏:‏ الفساد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 98‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ أولاد أولاده، ‏{‏تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ‏}‏ أي‏:‏ خطئك القديم من ذكر يوسف لا تنساه، والضلال هو الذهاب عن طريق الصواب، فإن عندهم أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ‏}‏ وهو المبشر عن يوسف، قال ابن مسعود‏:‏ جاء البشير بين يدي العير‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو يهوذا‏.‏

قال السدي‏:‏ قال يهوذا أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ حمله يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه، وكانت المسافة ثمانين فرسخا‏.‏

وقيل‏:‏ البشير مالك بن ذعر‏.‏

‏{‏أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ألقى البشيرُ قميصَ يوسف على وجه يعقوب، ‏{‏فَارْتَدَّ بَصِيرًا‏}‏ فعاد بصيرا بعدما كان عمِي وعادت إليه قوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن‏.‏

‏{‏قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا‏.‏

ورُوي أنه قال للبشير‏:‏ كيف تركت يوسف‏؟‏ قال‏:‏ إنه ملك مصر، فقال يعقوب‏:‏ ما أصنع بالملك على أي دين تركتَه‏؟‏ قال‏:‏ على دين الإسلام، قال‏:‏ الآن تمت النعمة‏.‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ‏}‏ مذنبين‏.‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ أخَّر الدعاء إلى السَّحَر، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏هل من داع فأستجيب له‏"‏ فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال‏:‏ اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرتُ لك ولهم أجمعين‏.‏

وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سوف أستغفر لكم ربي يعني ليلة الجمعة‏.‏ قال وهب‏:‏ كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة‏.‏

وقال طاوس‏:‏ أخَّر الدعاء إلى السَّحَر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء‏.‏ وعن الشعبي قال‏:‏ سوف أستغفر لكم ربي، قال‏:‏ أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

روي أن يوسف كان قد بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة‏.‏ وقال مسروق‏:‏ كانوا ثلاثة وتسعين، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال‏:‏ يا يهوذا هذا فرعون مصر، قال‏:‏ لا هذا ابنك، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فقال جبريل‏:‏ لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب‏:‏ السلام عليك يا مذهب الأحزان‏.‏

وروي أنهما نزلا وتعانقا‏.‏ وقال الثوري‏:‏ لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف‏:‏ يا أبت بكيتَ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا بني، ولكن خشيتُ أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏‏.‏

فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ ضم إليه، ‏{‏أَبَوَيْهِ‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ هو أبوه وخالته ليّا، وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هو أبوه وأمه، وكانت حيَّة‏.‏

وفي بعض التفاسير أن الله عز وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر‏.‏

‏{‏وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين بعدما أخبر أنهم دخلوها‏؟‏ وما وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول‏؟‏

قيل‏:‏ إن يوسف إنما قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر‏.‏ وفي الآية تقديم وتأخير، والاستثناء يرجع إلى الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله‏.‏

وقيل‏:‏ الاستثناء يرجع إلى الأمن من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم، يقول‏:‏ آمنين من الجواز إن شاء الله تعالى، كما قال‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏ ‏(‏الفتح- 27‏)‏‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ إن ‏"‏ ها هنا بمعنى إذْ، يريد‏:‏ إذْ شاء الله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏(‏آل عمران- 139‏)‏‏.‏ أي‏:‏ إذ كنتم مؤمنين‏.‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ أي‏:‏ على السرير‏:‏ أجلسهما‏.‏ والرفع‏:‏ هو النقل إلى العلو‏.‏ ‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا‏}‏ يعني‏:‏ يعقوب وخالته وإخوته‏.‏

وكانت تحية الناس يومئذ السجود، ولم يُرِدْ بالسجود وضعَ الجباه على الأرض، وإنما هو الانحناء والتواضع‏.‏

وقيل‏:‏ وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم، لا على طريق العبادة‏.‏ وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة‏.‏

ورُوي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ معناه‏:‏ خرُّوا لله عز وجل سٌجَدًا بين يدي يوسف‏.‏ والأول أصح‏.‏

‏{‏وقال‏}‏ يوسف عند ذلك‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا‏}‏ وهو قوله‏:‏ ‏"‏إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏"‏‏.‏

‏{‏وَقَدْ أَحْسَنَ بِي‏}‏ ربي، أي‏:‏ أنعم عليّ، ‏{‏إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ‏}‏ ولم يقل من الجُبِّ مع كونه أشد بلاء من السجن، استعمالا للكرم، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم‏:‏ ‏"‏لا تثريب عليكم اليوم‏"‏، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم، لأنه بعد الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك، ولأن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه‏.‏

‏{‏وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ‏}‏ والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم، وكانوا أهل بادية ومواشٍ، يقال‏:‏ بدَا يبدُو إذا صار إلى البادية‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ‏}‏ أفسد، ‏{‏الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي‏}‏ بالحسد‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ‏}‏ أي‏:‏ ذُو لُطف، ‏{‏لِمَا يَشَاءُ‏}‏ وقيل‏:‏ معناه بِمَنْ يشاء‏.‏

وحقيقة اللطيف‏:‏ الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

قال أهل التاريخ‏:‏ أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك، ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ نُقل يعقوب عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص فَدُفِنَا في قبر واحد، وكانا وُلِدَا في بطن واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة‏.‏

فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حُسنَ العاقبة، فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ‏}‏ يعني‏:‏ ملك مصر، والمُلْك‏:‏ اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير‏.‏ ‏{‏وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ‏}‏ يعني‏:‏ تعبير الرؤيا‏.‏ ‏{‏فَاطِر‏}‏ أي‏:‏ يا فاطر، ‏{‏السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ خالقهما ‏{‏أَنْتَ وَلِيِّي‏}‏ أي‏:‏ معيني ومتولي أمري، ‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا‏}‏ يقول اقبضني إليك مسلما، ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ يريد بآبائي النبيين‏.‏

قال قتادة‏:‏ لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف‏.‏

وفي القصة‏:‏ لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربِّه عز وجل فقال هذه المقالة‏.‏

قال الحسن‏:‏ عاش بعد هذا سنين كثيرة‏.‏ وقال غيره‏:‏ لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي‏.‏

واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه، فقال الكلبي‏:‏ اثنتان وعشرون سنة‏.‏

وقيل‏:‏ أربعون سنة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏

وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين، وولد ليوسف من امرأة العزير ثلاثة أولاد‏:‏ أفرائيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلي عليه السلام‏.‏

وقيل‏:‏ عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أكثر‏.‏ واختلفت الأقاويل فيه‏.‏

وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاحَّ الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، حتى همُّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ دفن في الجانب الأيمن من النيل، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، فدفنوه في وسطه وقَدَّرُوا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِك‏}‏ الذي ذكرتُ، ‏{‏مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب، ‏{‏إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عَزَمُوا على إلقاء يوسف في الجب، ‏{‏وَهُمْ يَمْكُرُونَ‏}‏ بيوسف‏.‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ‏}‏ يا محمد، ‏{‏وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ على إيمانهم‏.‏

ورُوي أن اليهود وقريشًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له‏:‏ إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 106‏]‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله تعالى، ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ جُعْلٍ وجزاء، ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ ما هو يعني القرآن، ‏{‏إِلا ذِكْرٌ‏}‏ عظة وتذكير، ‏{‏لِلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَأَيِّن‏}‏ وكم ‏{‏مِنْ آيَةٍ‏}‏ عِبْرةٍ وَدَلالة، ‏{‏فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها‏.‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ فكان من إيمانهم إذا سُئِلُوا‏:‏ مَنْ خلق السموات والأرض‏؟‏ قالوا‏:‏ الله، وإذا قيل لهم‏:‏ مَنْ ينزل القطر‏؟‏ قالوا‏:‏ الله، ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون‏.‏

وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ إنها نزلت في تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون في تلبيتهم، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هذا في الدعاء، وذلك أن الكفار نسوا ربَّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ الآية ‏(‏يونس- 22‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏(‏العنكبوت- 65‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ عقوبة مجللة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ عذاب يغشاهم، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏يوم يغشاهم العذاب من فوقهم‏"‏ الآية ‏{‏العنكبوت- 55‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ وقيعة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني الصواعق والقوارع‏.‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً‏}‏ فجأة، ‏{‏وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ بقيامها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏هَذِه‏}‏ الدعوة التي أدعُو إليها والطريقة التي أنا عليها، ‏{‏سَبِيلِي‏}‏ سُنَّتي ومنهاجي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ديني، نظيره قوله‏:‏‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏النحل- 125‏)‏ أي‏:‏ إلى دينه‏.‏ ‏{‏أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة‏}‏ على يقين‏.‏ والبصيرة‏:‏ هي المعرفة التي تُمِّيزُ بها بين الحق والباطل، ‏{‏أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ أي‏:‏ ومَنْ آمن بي وصدَّقني أيضا يدعو إلى الله‏.‏ هذا قول الكلبي وابن زيد، قالوا‏:‏ حقٌّ على مَنْ اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكّر بالقرآن‏.‏

وقيل‏:‏ تَمَّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏أَدْعُو إِلَى اللَّهِ‏}‏ ثم استأنف‏:‏ ‏{‏عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ يقول‏:‏ إني على بصيرة من ربي، وكل من اتبعني‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن‏.‏

قال عبد الله بن مسعود‏:‏ من كان مُسْتَنًّا فليستنّ بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، وأبرَّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلّفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسُبْحَانَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ وقل سبحان الله تنزيهًا له عمّا أشركوا به‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ يا محمد، ‏{‏إِلا رِجَالا‏}‏ لا ملائكة، ‏{‏نُوحِي إِلَيْهِمْ‏}‏ قرأ حفص‏:‏ ‏{‏نُوحِي‏}‏ بالنون وكسر الحاء وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء‏.‏

‏{‏مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ يعني‏:‏ من أهل الأمصار دون البوادي، لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لم يبعث الله نبيا من بدو، ولا من الجن، ولا من النساء‏.‏ وقيل‏:‏ إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفائهم‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء المشركين المكذبين، ‏{‏فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ‏}‏ آخر أمر، ‏{‏الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الأمم المكذبة فيعتبروا‏.‏

‏{‏وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ يقول جلّ ذكرهُ‏:‏ هذا فعلنا بأهل ولايتنا وطاعتنا؛ أن ننجيهم عند نزول العذاب، وما في الدار الآخرة خير لهم، فترك ما ذكرنا اكتفاءً، لدلالة الكلام عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الآخِرَةِ‏}‏ قيل‏:‏ معناه ولدار الحال الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ هو إضافة الشيء إلى نفسه، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ‏}‏ ‏(‏الواقعة- 95‏)‏ وكقولهم‏:‏ يوم الخميس، وربيع الآخر، ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ فتؤمِنُون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا‏}‏ اختلف القُرّاء في قوله‏:‏ ‏{‏كُذِّبُوا‏}‏‏.‏

فقرأ أهل الكوفة وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏كُذِبُوا‏}‏ بالتخفيف وكانت عائشة تنكر هذه القراءة‏.‏

وقرأ الآخرون بالتشديد‏.‏

فمن شدَّد قال‏:‏ معناه حتى استيئس الرسلُ من إيمان قومهم‏.‏

روي عن مجاهد أنه قرأ‏:‏ وقد كَذبوا بفتح الكاف والذال مخففة ولها تأويلان‏:‏ أحدهما معناه‏:‏ أن القوم المشركين ظنوا أن الرسل قد كُذِبُوا‏.‏ والثاني‏:‏ معناه‏:‏ أن الرسل ظنوا- أي‏:‏ علموا- أن قومهم قد افتروا على الله بكفرهم من إيمان قومهم‏.‏

وظنوا‏:‏ أي أيقنوا- يعني الرسل- أن الأمم قد كذَّبوهم تكذيبا لا يرجى بعد إيمانهم‏.‏

والظن بمعنى اليقين‏:‏ وهذا معنى قول قتادة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ معناه‏:‏ حتى إذا استيئسَ الرسل ممن كذَّبهم من قومهم أن يُصَدّقوهم وظنوا أن من آمن بهم من قومهم قد كذبوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء عليهم واستبطاء النصر‏.‏ ومن قرأ بالتخفيف قال‏:‏ معناه‏:‏ حتى إذا استيئس الرسل من إيمان قومهم وظنَّوا أي‏:‏ ظنّ قومُهم أن الرسل قد كذبتهم في وعيد العذاب‏.‏

ورُوي عن ابن عباس‏:‏ معناه ضعف قلوب الرسل يعني‏:‏ وظنت الرسل أنهم كذبوا فيما وعدوا من النصر‏.‏ وكانوا بشراً فضعفوا ويئسوا وظنوا أنهم أُخلِفُوا ثم تلا ‏{‏حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏البقرة- 214‏)‏ أي‏:‏ جاء الرسل نصرنا‏.‏

‏{‏فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ‏}‏ قرأ العامة بنونينُ أي‏:‏ نحن ننجي من نشاء‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله لأنها مكتوبة في المصحف بنون واحدة فيكون محل ‏{‏مَنْ‏}‏ رفعا على هذه القراءة‏.‏ وعلى القراءة الأولى يكون نصبا فنجي من نشاء عند نزول العذاب وهم المؤمنون المطيعون‏.‏

‏{‏وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا‏}‏ عذابنا ‏{‏عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ المشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ في خبر يوسف وإخوتهُ ‏{‏عِبْرَةٌ‏}‏ عِظةٌ ‏{‏لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآنُ ‏{‏حَدِيثًا يُفْتَرَى‏}‏ أي‏:‏ يُختلقُ ‏{‏وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي‏}‏ أي‏:‏ ولكنْ كان تصديق الذي ‏{‏بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من التوراة والإنجيل ‏{‏وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والأمر والنهي ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ بيانا ونعمة ‏{‏لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

سورة الرعد

مكية إلا قوله‏:‏ ‏"‏ولا يزال الذين كفروا‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏ويقول الذين كفروا لست مرسلا‏"‏ وهي ثلاث وأربعون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏المر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ أنا الله أعلم وأرى ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ‏}‏ يعني‏:‏ تلك الأخبار التي قصصتها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، ‏{‏وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ وهذا القرآن الذي أنزل إليك، ‏{‏مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ هو الحق فاعتصم به‏.‏ فيكون محل ‏"‏الذي‏"‏ رفعا على الابتداء، والحق خبره‏.‏

وقيل‏:‏ محلُّه خفض، يعني‏:‏ تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنزل إليك، ثم ابتدأ‏:‏ ‏"‏الحق‏"‏، يعني‏:‏ ذلك الحق‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أراد بالكتاب القرآن، ومعناه‏:‏ هذه آيات الكتاب، يعني القرآن، ثم قال‏:‏ وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في مشركي مكة حين قالوا‏:‏ إن محمدا يقوله من تلقاء نفسه فردّ قولهم ثم بين دلائل ربوبيته، فقال عَزَّ من قائل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ يعني‏:‏ السَّواري، واحدها عمود، مثل‏:‏ أديم وأَدَم، وعُمُد أيضا جمعه، مثل‏:‏ رسول ورُسل‏.‏

ومعناه نفي العمد أصلا وهو الأصح، يعني‏:‏ ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها‏.‏

قال إياس بن معاوية‏:‏ السماء مقبَّبة على الأرض مثل القبة

وقيل‏:‏ ‏"‏ترونها‏"‏ راجعة إلى العمد، معناه لها عمد ولكن لا ترونها

وزعم‏:‏ أن عمدها جبل قاف، وهو محيط بالدنيا، والسماء عليه مثل القبة‏.‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ علا عليه ‏{‏وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ‏}‏ ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران، ‏{‏كُلٌّ يَجْرِي‏}‏ أي‏:‏ يجريان على ما يريد الله عز وجل، ‏{‏لأجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ أي‏:‏ إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليها لا يجاوزانها، ‏{‏يُدَبِّرُ الأمْرَ‏}‏ يقضيه وحده، ‏{‏يُفَصِّلُ الآيَاتِ‏}‏ يبين الدلالات، ‏{‏لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏ لكي توقنوا بوعده وتصدقوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ‏}‏ بسطها، ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ‏}‏ جبالا ثابتة، واحدتها راسية، قال ابن عباس‏:‏ كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض ‏{‏وَأَنْهَارًا‏}‏ وجعل فيها أنهارا‏.‏ ‏{‏وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ صنفين اثنين أحمر وأصفر، وحلوا وحامضا، ‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ‏}‏ أي‏:‏ يلبس النهار بظلمة الليل، ويلبس الليل بضوء النهار، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فيستدلون‏.‏ والتفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ‏}‏ متقاربات يقرب بعضها من بعض، وهي مختلفة‏:‏ هذه طيبة تنبت، وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع، وهذه كثيرة الريع، ‏{‏وَجَنَّاتٌ‏}‏ بساتين، ‏{‏مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ‏}‏ رفعها كلها ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب، عطفا على الجنات، وجرَّها الآخرون نسقاً على الأعناب‏.‏ والصنوان‏:‏ جمع صنو، وهو النخلات يجمعهن أصل واحد‏.‏

‏{‏وَغَيْرُ صِنْوَانٍ‏}‏ هي النخلة المنفردة بأصلها‏.‏ وقال أهل التفسير صنوان‏:‏ مجتمع، وغير صنوان‏:‏ متفرق‏.‏ نظيره من الكلام‏:‏ قنوان جمع قنو‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في العباس‏:‏ ‏"‏عمّ الرجل صنو أبيه‏"‏‏.‏ ولا فرق في الصنوان والقنوان بين التثنية والجمع إلا في الإعراب، وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة، وفي الجمع منونة‏.‏

‏{‏يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب ‏"‏ يُسقى ‏"‏ بالياء أي يسقى ذلك كله بماء واحد، وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَنَّاتٌ‏}‏ ولقوله تعالى من بعد ‏"‏بعضها على بعض‏"‏، ولم يقل بعضه‏.‏ والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نامٍٍ‏.‏

‏{‏وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ‏}‏ في الثمر والطعم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏"‏ ويفضل ‏"‏ بالياء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ‏}‏ ‏(‏الرعد- 2‏)‏‏.‏

وقرأ الآخرون بالنون على معنى‏:‏ ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل، وجاء في الحديث في قوله‏:‏ ‏"‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏الفارسي، والدَّقَلُ، والحلو، والحامض‏"‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كمثل بني آدم، صالحهم وخبيثهم، وأبوهم واحد‏.‏

قال الحسن‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم، ويقول‏:‏ كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن عز وجل، فسطحها، فصارت قطعاً متجاورةً، فينزل عليها المطر من السماء، فتخرج هذه زهرتها، وشجرها وثمرها ونباتها، وتخرج هذه سَبَخَها وملحها وخبيثها وكل يُسقَى بماء واحد، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع، وتقسو قلوب فتلهو‏.‏

قال الحسن‏:‏ والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا‏}‏ ‏(‏الإسراء- 82‏)‏‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه‏:‏ إنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عز وجل فعجب أمرهم‏.‏

وكان المشركون ينكرون البعث، مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها وهم قدْ رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم، أي‏:‏ فتعجب أيضا من قولهم‏:‏ ‏{‏أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا‏}‏ بعد الموت، ‏{‏أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت‏.‏

قرأ نافع والكسائي ويعقوب ‏"‏أئذا‏"‏ مستفهما ‏"‏إنّا‏"‏ بتركه، على الخبر، ضده‏:‏ أبو جعفر وابن عامر‏.‏ وكذلك في ‏"‏سبحان‏"‏ في موضعين، والمؤمنون، والم السجدة، وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما وفي الصافات في موضعين هكذا إلا أن أبا جعفر يوافق نافعاً في أول الصافات فيقدم الاستفهام ويعقوب لا يستفهم الثانية ‏{‏أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون‏}‏ ‏(‏الصافات- 53‏)‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ‏}‏ الاستعجال‏:‏ طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والسيئة ها هنا هي‏:‏ العقوبة، والحسنة‏:‏ العافية‏.‏ وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون‏:‏ ‏"‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏"‏ ‏(‏الأنفال- 32‏)‏‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ‏}‏ أي‏:‏ مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات‏.‏ والمثلات جمع المَثُلَة بفتح الميم وضم الثاء، مثل‏:‏ صَدُقَة وصَدُقَات‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ علامة وحجة على نبوته، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ‏}‏ مُخَوِّف، ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ أي‏:‏ لكل قوم نبي يدعوهم إلى الله تعالى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ داعٍٍ يدعوهم إلى الحق أو إلى الضلالة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ إنما أنت منذر وأنت هادٍ لكل قوم، أي‏:‏ داعٍٍ‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ الهادي هو الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى‏}‏ من ذكر أو أنثى، سَوِيِّ الخَلْق أو ناقص الخلق، واحدا أو اثنين أو أكثر ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ‏}‏ أي ما تنقص ‏{‏وَمَا تَزْدَادُ‏}‏‏.‏

قال أهل التفسير غيض الأرحام‏:‏ الحيض على الحمل؛ فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في الولد، لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم، فإذا أهرقت الدم ينقص الغذاء فينتقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتمُّ، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم‏.‏

وقيل‏:‏ إذا حاضت ينتقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر ظاهرا، فإن رأت خمسة أيام دماً وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، فالنقصان في الغذاء، والزيادة في المدة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ غيضها‏:‏ نقصانها من تسعة أشهر والزيادة، زيادتها على تسعة أشهر‏.‏ وقيل النقصان‏:‏ السَّقط، والزيادة‏:‏ تمام الخلق‏.‏ وأقل مدة الحمل‏:‏ ستة أشهر، فقد يولد المولود لهذه المدة ويعيش‏.‏

واختلفوا في أكثرها‏:‏ فقال قوم‏:‏ أكثرها سنتان، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله‏.‏ وذهب جماعة إلى أن أكثرها أربع سنين، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله، قال حماد بن سلمة‏.‏ إنما سمي هَرِِم بن حيَّان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين‏.‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏ أي‏:‏ بتقدير وَحَدٍّ لا يجاوزه ولا يقصر عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ‏}‏ الذي كل شيء دونه، ‏{‏الْمُتَعَالِ‏}‏ المستعلي على كل شيء بقدرته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يستوي في علم الله المُسِرّ بالقول والجاهر به، ‏{‏وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ‏}‏ أي‏:‏ مستتر بظلمة الليل، ‏{‏وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ‏}‏ أي‏:‏ ذاهب في سربه ظاهر‏.‏ والسَّرْب- بفتح السين وسكون الراء-‏:‏ الطريق‏.‏

قال القتيبي‏:‏ سارب بالنهار‏:‏ أي متصرف في حوائجه‏.‏ قال ابن عباس في هذه الآية هو صاحب ريبة، مستخفٍ بالليل، فإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم‏.‏ وقيل‏:‏ مستخف بالليل، أي‏:‏ ظاهر، من قولهم‏:‏ خفيت الشيء؛ إذا أظهرته، وأخفيته‏:‏ إذا كتمته‏.‏ وسارب بالنهار‏:‏ أي متوارٍ داخل في سرب‏.‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ‏}‏ أي‏:‏ لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل‏.‏ والتعقيب‏:‏ العود بعد البدء، وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقِّب، وجمعه معقِّبة، ثم جمع الجمع معقِّبات، كما قيل‏:‏ أبناوات سعد ورجالات بكر‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يَتَعاقَبُون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يَعْرُجُ الذين بَاتُوا فيكم، فيسألُهم ربهم- وهو أعلم بهم-‏:‏ كيف تركتم عبادي‏؟‏ فيقولون‏:‏ تركناهم وهم يصلُّون وأتيناهم وهم يصلُّون‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار، ومن خلفه‏:‏ من وراء ظهره، ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ بأمر الله، أي‏:‏ يحفظونه بإذن الله ما لم يجئ المقدور، فإذا جاء المقدور خلوا عنه‏.‏ وقيل‏:‏ يحفظونه من أمر الله‏:‏ أي مما أمر الله به من الحفظ عنه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ما من عبد إلا وله ملك موكَّل به، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوامّ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال وراءك‏!‏ إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه‏.‏

قال كعب الأحبار‏:‏ لولا أن الله عز وجل وكّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطَّفكم الجن‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم‏.‏

وقيل‏:‏ الآية في المَلَكَيْن القاعِدَيْن عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ ‏(‏ق- 17‏)‏‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ معنى يحفظونه أي‏:‏ يحفظون عليه أعماله من أمر الله، يعني‏:‏ الحسنات والسيئات‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء في قوله ‏"‏له‏"‏‏:‏ راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال‏:‏ له معقبات يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله يعني‏:‏ من شر الجن وطوارق الليل والنهار‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة، وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، وهما عامريان، يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر، وكان أعور وكان من أجلَّ الناس فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال‏:‏ دعه فإن يرد الله به خيرا يهده‏.‏

فأقبل حتى قام عليه، فقال‏:‏ يا محمد مالي إن أسلمت‏؟‏

قال‏:‏ ‏"‏لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين‏"‏‏.‏

قال‏:‏ تجعل لي الأمر بعدك‏.‏

قال‏:‏ ليس ذلك إلي، إنما ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء‏.‏

قال‏:‏ فتجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فماذا تجعل لي‏؟‏

قال‏:‏ أجعل لك أعِنة الخيل تغزو عليها‏.‏

قال‏:‏ أوليس ذلك إليَّ اليوم‏؟‏ قم معي أكلمك‏.‏ فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله تعالى عنه، فلم يقدر على سلّه، وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أربد وما صنع بسيفه، فقال‏:‏ اللهم اكفنيهما بما شئت‏.‏ فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته، وولّى عامر هاربا وقال‏:‏ يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يمنعك الله تعالى من ذلك، وأبناء قيلة يريد‏:‏ الأوس والخزرج‏.‏ فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضمَّ عليه سلاحه وقد تغير لونه، فجعل يركض في الصحراء، ويقول‏:‏ ابرز يا ملك الموت، ويقول الشعر، ويقول‏:‏ واللات والعزى لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنَّهما برمحي، فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبتيه في الوقت غُدَّة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول‏:‏ غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية‏.‏ ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل عامر بن الطفيل بالطعن وأربد بالصاعقة، وأنزل الله عز وجل في هذه القصة قوله‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله‏.‏ يعني تلك المعقبات من أمر الله‏.‏ وفيه تقديم وتأخير‏.‏

وقال لهذين‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ‏}‏ من العافية والنعمة، ‏{‏حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

من الحال الجميلة فيعصوا ربهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا‏}‏ أي‏:‏ عذابا وهلاكا ‏{‏فَلا مَرَدَّ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لا رادَّ له ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ‏}‏ أي‏:‏ ملجأ يلجؤون إليه‏.‏ وقيل‏:‏ والٍٍ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم‏.‏